الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
ثم بلغ السلطان أن قرايلك نزل من قلعة أرقنين بجماعة من عساكره يريد أن يكبس على السلطان في الليل أو يتوجه بهم إلى حلب فندب السلطان جماعة من الأمراء والمماليك في عمل اليزك بالنوبة في كل ليلة لحفظ العساكر ثم رسم السلطان للأمير جارقطلو نائب الشام بالتوجه لقرايلك بقلعة أرقنين وندب معه جماعة من النواب والأمراء والعساكر المصرية وكنت أنا معهم فخرجنا من الوطاق السلطاني في الليل بجموع كثيرة وجددنا في السير حتى وافينا قرايلك وهو بمخيمه تحت قلعة أرقنين بمن الظهر والعصر وكان غالب العسكر قد تخلف بعدنا. فتقدم بعض العسكر السلطاني من التركمان والعربان ومثل الأمير مقبل الحسامي نائب صفد وآقبغا الجمالي المعزول عن الأستادارية وجماعة أخر جمن الأعيان من أمراء مصر والشام واقتتلوا مع القرايلكية قتالًا جيدًا إلى أن كانت الكسرة فينا وقتل منا جماعة كثيرة من التركمان والعربان وأمراء دمشق وغيرهم مثل الأمير تمرباي الجقمقي أحد أمراء دمشق والأمير بخت خجا أيضًا من أمراء دمشق وجرح أكثر من كان معنا من الخاصكية والمماليك كل ذلك وسنجق السلطان إلى الآن لم يصل إلينا. وأما جارقطلو فإنه لما قوي الحر عليه نزل على نهر بالقرب من أرقنين ليروي خيوله منه وصار الرائد يرد عليه بأن القوم قد التقوا مع عساكر قرايلك وهم في قلة وقد عزموا على القتال فلم يلتفت إلى ذلك وسار على هينته فتركه بعض عساكره وساروا حتى لحقوا بمن تقدمهم وقاتلوا القرايلكية وهم من تقدم ذكرهم ممن قتل من أمراء دمشق. ولما أن بلغ من معنا من الأمراء المصريين ما وقع لجماعتنا ساقوا أيضًا حتى وافي جماعة منهم العسكر السلطاني فعند ذلك تراجع القوم وكروا القرايلكية وهزموهم أقبح هزيمة وتعلق قرايلك بقلعة أرقنين وتحصن بها ونهبت عساكره وتمزقوا كل ممزق. ثم عدنا إلى جهة الوطاق بآمد في آخر النهار اله على أقبح وجه ممن باشر القتال وهم القليل وأما غالب العسكر فلم ير القتال بعينه. وصار الأمير أزبك جحا بين يدي السلطان يثني على التركمان والعربان ويقول: يا مولانا هولاء هم العسكر الذي ينتصر الملوك بهم لا غيرهم ذلك على طائفة من المماليك إلى الغاية وشنعوا القاله فيه لكونه تكلم ومن يومئذ تحقق السلطان ما قيل عن جارقطلو من تقاعده عن قتال قرايلك وأكثر أهل آمد من هذا اليوم الدعاء للأمير جارقطلو المذكور من أعلى السور خرجوا عن الحد فلم يدر الناس هل كان ذلك مكيدة من مكايد قرايلك الخلف بين العسكر بسبب ذلك أم كان ذلك عن حقيقة والله أعلم. هذا والسلطان مجتهد في عماره قلعة من الخشب تجاه أبراج ومكاحل النفط ترمى في كل يوم بالمدافع والمناجنيق منصوبة يرمى بها وأيضًا على الأبراج وأهل آمد في أسوأ ما يكون من الحال هذا مع عدم التفات السلطان لحصار آمد الالتفات الكلي لشغل خاطره من جهة اختلاف عساكره وهو بتلك البلاد بين يدي عدوه وقد تورط في الإقامة على حصار آمد والشروع ملزم. وطالت إقامته على آمد بعساكره نحو خمسة وثلاثين يومًا وقد ضاق الحال أيضًا على أهل آمد فعند ذلك ترددت الرسل بين السلطان وبين قرايلك في الصلح وكان قرايلك هو البادىء في ذلك حتى تم وانتظم الصلح بينهما على أن قرايلك يقبل الأرض للسلطان ويخطب باسمه في بلاده ويضرب السكة على الدينار والدرهم باسمه فأجاب إلى ذلك فأرسل إليه السلطان حمي القاضي شرف الدين الأشقر نائب كاتب السر وأرسلت أنا معه بعض أعيان مماليك الوالد ممن كان في صحبتي من المماليك السلطانية فتوجه إليه القاضي شرف الدين المذكور بالخلع والفرس الذي جهزه السلطان إليه بقماش ذهب ونحو ثلاثين قطعة من القماش السكندري. ولما بلغ قرايلك مجيء القاضي شرف الدين نزل من قلعة أرقنين بمخيمه ولقي القاضي شرف الدين المذكور وسلم عليه ثم قام وقبل الأرض فألبسه القاضي شرف الدين الخلعة وكانت كاملية مخمل كفوي بمقلب سمور وفوقانيًا بوجهين أحمر وأخضر بطراز عريض إلى الغاية. ثم قدم له الفرس صحبة الأوجاقي فقام إليه فأمره القاضي شرف الدين بتقبيل حافر الفرس فامتنع من ذلك قليلًا ثم أجاب بعد أن قال: والله إن هذه عادة تعيسة أو معنى ذلك. ثم أخذ في الكلام مع القاضي شرف الدين فأخذ القاضي شرف الدين يعظه ويحذره مخالفة السلطان وسوء عاقبة ذلك فقال: وأنا من أين والسلطان من أين أنا رجل تركماني في جهة من الجهات ثم شرع يذكر قلة رأي السلطان في مجيئه إلى بلاده وقال: أنا يكفيني نائب حلب وهو بعض نواب السلطان وما عسى كان يفعل السلطان لو أخذ آمد وكل شيء في آمد ما يساوي بعض ما تكلفه ثم قال: والله لو أعطاني السلطان نصف ما ذهب من الكلف في نعل خيوله وخيول عساكره لرضيت ودخلت في طاعته ثم قال: لو كان مع السلطان أمير من جنس هذا وأشار إلى مملوك الوالد الذي توجه مع القاضي شرف الدين مما خلاه يجيء إلى هنا وكان المملوك المذكور تتريا فقال شرف الدين: بلى مع السلطان جماعة من جنسه فقال: لا والله كان عندكم واحد نفيتموه إلى القدس بطالًا يعني بذلك الأمير قرامراد خجا الشعباني أمير جاندار وأحد مقدمي الألوف. ثم قام قرايلك وقلع الخلعة من عليه وألبسها بعض حواشيه ثم فعل بالكاملية أيضًا كذلك وانفض المجلس وبات شرف الدين تلك الليلة عنده ولم يجتمع به غير المرة الأولى. وعند السفر دخل إليه من الغد وسلم عليه فأنعم على قرايلك بأربعة أكاديش يساوي ثمنها أربعة آلاف درهم فلوسًا عند صاحب الغرض. وعاد القاضي شرف الدين إلى السلطان فاجتمعت به قبل السلطان وعرفني جميع ما حكيته فاتفقنا على جواب نمقناه يحسن ببال السلطان من جنس كلام قرايلك لا يخفى على الذوق السليم معناه. فلما دخل إلى السلطان وأعاد عليه الجواب المذكور سر السلطان قليلًا بذلك وعظم سرور من حضر من القوم ومعظم سرورهم بعودهم إلى بلادهم وأوطانهم سالمين مما هالهم مما كانوا فيه من المشقة وقد اعتادوا بالترف والأمن وقلة القتال. وفي الحال أخذ السلطان في أسباب الرحيل ورحل في ليلة الخميس ثالث عشر ذي القعدة في النصف الثاني من الليل من غير ترتيب ولا تطليب ولا تعبية ورحلت العساكر من آمد كالمنهزمين لا يلوي أحد على أحد بل صار كل واحد يسير على رأيه. وعند رحيل القوم أطلق الغلمان النيران في الزروع المحصودة برسم عليق خيول الأجناد فإنه كان كل جندي من الأجناد صار أمام خيمته جرن كبير مما يحصده غلامه ويأتيه به من زروع آمد فلما انطلق النار في هذه الأجران انطبق الوطاق بالدخان إلى الجو حتى صار الرجل لا ينظر إلى الرجل الذي بجانبه. ورحل الناس على هذه الهيئة مسرعين مخافة أن يسير السلطان ويتركهم غنيمة لأهل آمد. وبالله لو نزلوا في ذلك الوقت لأمسكوا من اختاروا مسكه قبضًا باليد ولو أرادوا النهب لغنموا وسعموا إلى الأبد لأن السلطان سار قبل رحيل نصف عسكره. وسار القوم من آمد إلى جهات متفرقة إلى أن طلع النهار وقد تمزقت العساكر في طرقات متعددة لا تعرف طائفة خبر طائفة أخرى لبعد ما بينهم من المسافة. فتوجه أتابك العساكر سودون من عبد الرحمن وهو مريض ملازم ركوب المحفة من طريق ماردين السالكة إلى مدينة الرها ومعه طائفة كبيرة ممن تبعه من العسكر السلطاني وتوجهت طائفة أخرى من العسكر من الطريق التي سلكناها في الذهاب إلى آمد من جهة قلعة أرقنين التي بها قرايلك وتبعهم خلائق وعدة أطلاب فافترق الأمراء من مماليكهم وأطلابهم وتشتت شملهم. وسار السلطان من الطريق الوسطى من على الجبل المعروف قراضاغ وهذا الطريق أقرب الطرق كالمفازة غير أنه عسر المسلك إلى الغاية من الطلوع والنزول وضيق الطرقات. وكنت أنا معه بهذا الطريق المذكور وأكل السبع رجلًا من غلماننا ووقع ذلك لجماعة أخر واصطادت الناس السباع من الأوكار وسرنا حتى نزلنا عن الجبل إلى فضاء غربي الجبل المذكور ومسافة الموضع الذي نزل السلطان به عن أرقنين التي بها قرايلك مقدار نصف بريد تخمينًا. وعند نزول السلطان بالمنزلة المذكورة علم بمن فقده من عساكره وتأمل من معه منهم فإذا هم على النصف من عسكره وأيضا فيهم الذي تاه عن جماله ومنهم من لا يعرف طلبه أين ذهب وهو الأمير قرقماس الشعباني حاجب الحجاب نزل بالمنزلة المذكورة وليس معه غير أصحابه وطائفة نحو خمسة أنفس وهجان وغلام فنصب السيبة واستظل تحتها من الشمس وقد سار طلبه بجميع مماليكه ورخته من جهة لا يعرف متى تعود إليه ومثله فكثيرمن الأجناد والأمراء. فلما رأى الملك الأشرف نفسه في قلة من عساكره ولم يبق معه إلا شرذمة قليلة ولم يعلم أين ذهب الباقون شق عليه ذلك وتخؤف من كبس قرايلك في الليل ولم يجد بدًا من المبيت في المكان المذكور لتمزق عساكره. فلما دخل الليل ندب السلطان الأمير جقمق العلائي الأمير آخور الكبير ومعه جماعة لحفظ العسكر في الليل فركب الأمير جقمق بمماليكه ومن انضاف إليه قلت: ومن تلك الليلة المذكورة علمت حال قرايلك وهمته فإنه لو كان بقية ما ترك عساكرنا في تلك الليلة بخير لأن الصلح الذي كان وقع بينه السلطان الملك الأشرف كلا شيء: كان فسخ مجلس لا غير وقد بلغه ما لعسكرنا من الشتات والتفرق وعلم بجميع ما نحن فيه لقرب المسافة بينا ترك الإيقاع بنا إلا عجزًا وجبنًا وضعفًا. وأيضًا من كان بمدينة آمد لو كان فيهم منعة وقوة بعد ما عاينوا ما وقع لعسكرنا عند الرحيل من التمزق وعظم الاضطراب لنزلوا واستولوا على جماعة من العسكر وباقي العسكر لا يعرفون بذلك من عظم الغوغاء وشغل كل واحد بنفسه مع شدة سواد الليل وظلمته انتهى. ولما أصبح السلطان بكرة يوم الجمعة بهذه المنزلة المذكورة سار كل منها ما يريد مدينة الرها حتى وصلها بمن معه من العسكر وأقام بها حتى اجتمع به من كان ذهب من عساكره في الطرقات. وأخذ السلطان في إصلاح أمر مدينة وطلب الأمير إينال العلائي الناوري نائب غزة وأراد أن يخلع عليه بنيابة فامتنع من ذلك أشد امتناع وأفحش في الرد وخاشن السلطان في اللفظ وصمم على عدم القبول لذلك فغضب السلطان منه واشتد حنقه وهم بالإيقاع به فخشي عاقبة ذلك من عظم شوكة إينال المذكور وأخذ يثني على نفسه من كونه يحكم على أمرائه ومماليكه وأشياء من هذا المعنى إلى أن قال: أنا حكمي ما يسمعه إلا مماليكي وطلب الأمير قراجا الأشرفي شاد الشراب خاناه وخلع عليه باستقراره في نيابة الرها وخلع على القاضي شرف الدين نائب كاتب السر باستقراره كاتب سر الرها وخرجا من بين يدي السلطان بالخلع على كره. ثم لما توجه الأمير إينال العلائي نائب غزة إلى مخيمه كلمه الناس من أصحابه فيما وقع منه من تمنعه ومخاشنته في الكلام مع السلطان أو كأنه خشي عواقب ما وقع منه فاعتذر من خراب مدينة الرها وأنه ليس بها ما يقوم بأوده وبلغ السلطان ذلك فضمن له ما طلبه وخلع عليه من يومه المذكور باستقراره في نيابة الرها ثم استعفى شرف الدين من كتابة سر الرها فأعفي بعد أن حمل خمسمائة. دينار للخزانة الشريفة. ثم أمر السلطان المماليك السلطانية بدفع ما معهم من الشعير للأمير إينال المذكور ليكون له حاصل بالرها فبعث كل واحد منهم بشيء من عليق خيوله فاجتمع من ذلك شونة كبيرة ثم أنعم السلطان على الأمير إينال المذكور بأشياء كثيرة وأصلح أمره وسار بعساكره عن الرها إلى أن نزل البيرة. قلت: وإينال هذا هو الملك الأشرف سلطان زماننا. ولما نزل السلطان بالبيرة أقام بها إلى أن عدت عساكره الجسر الذي نصب على بحر الفرات إلى البر الغربي ثم عدى السلطان إلى البر الغربي المذكور وأقام به يومه ورحل من آخر النهار المذكور بعساكره حتى وصل إلى حلب في خامس عشر ذي القعدة ونزل بظاهرها بالمنزلة التي نزل بها في ذهابه إلى آمد ونزل حوله جميع عساكره بعد أن أجهدهم التعب وماتت خيولهم وتلفت أموالهم من غير فائدة ولا قيام حرمة غير أن لسان الحال ينشد قول القائل: الوافر: مشيناها خطى كتبت علينا ومن كتبت عليه خطى مشاها وأقام السلطان بحلب نحو العشرة أيام وأمر النواب بالبلاد الشامية بالمسير إلى محل كفالتهم وخلع على الأمير جانبك الحمزاوي أحد مقدمي الألوف باستقراره في نيابة غزة عوضًا عن إينال العلائي المنتقل إلى نيابة الرها فامتنع جانبك الحمزاوي من ذلك امتناعًا كليًا فألبسه الخلعة كرهًا. قيل: إن جانبك المذكور لما لبس الخلعة وخرج هز رأسه وأمسك لحية نفسه كالمتوعد وبلغ الأشرف ذلك فقال: حتى يصل إلى غزة فمات بالقرب من بعلبك. وكان جانبك ممن اتهم بالممالأة من الأمراء في آمد وتكلم الناس في موت نجانبك المذكور: أنه اغتيل بالسم لقول الملك الأشرف في حقه: حتى يصل إلى غزة فقلت لبعض الإخوان: يمكن أن يكون ذلك من طريق الكشف والكرامة فضحك الحاضرون وانفض المجلس. ثم خلع السلطان على الأمير قاني باي الأبو بكري الناصري المعروف بالبهلوان أتابك حلب بانتقاله إلى أتابكية دمشق بعد مرت الأمير تغري بردي المحمودي بآمد من جرح أصابه في حصار آمد وكان المحمودي أيضًا ممن اتهم بالوثوب على الملك الأشرف. وخلع على الأمير قطج من تمراز أحد مقدمي ألوف حلب باستقراره أتابك حلب عوضًا عن قاني باي المذكور وخلع السلطان على الأمير كمشبغا الأحمدي الظاهري أحد أمراء العشرات ورأس نوبة بتوجهه إلى الديار المصرية مبشرًا بعود السلطان إلى الديار المصرية. وصار السلطان يركب ويسير بحلب وطلع إلى قلعتها غير مرة إلى أن خرج منها في يوم الخميس خامس في ذي الحجة من سنة ست وثلاثين المقدم ذكرها يريد جهة دمشق. وسار حتى نزل بحماة وأقام بها أيامًا ثم رحل منها بعساكره إلى جهة دمشق حتى دخلها في يوم الخميس تاسع عشر ذي الحجة ونزل بقلعتها ونزلت عساكره بمدينة دمشق. ودام بدمشق إلى أن برز منها يوم السبت ثامن عشرين ذي الحجة يريد الديار المصرية بعد أن خلع على جميع نواب البلاد الشامية باستمرارهم ولم يحرك ساكن في الظاهر والله متولي السرائر. ثم سار السلطان حتى وصل غزة وقد استقر في نيابتها من دمشق الأمير يونس الركني أحد مقدمي الألوف بدمشق وكان يونس المذكور وليها مرة أخرى قبل ذلك. وأقام السلطان بغزة ثلاة أيام ثم رحل منها يريد القاهرة حتى وصلها في يوم الأحد العشرين من محرم سنة سبع وثلاثين وثمانمائة ودخل في موكب جليل من باب النور بأبهة الملك وشعار السلطنة وعلى رأسه القبة والطير تولى حملها الأمير الكبير سودون من عبد الرحمن وهو مريض وقد ساعده جماعة من حواشيه في حملها. وشق السلطان القاهرة وقد زينت لقدومه أحسن زينة وسار حتى نزل بمدرسته التي أنشأها بخط العنبريين من القاهرة وصلى بها ركعتين ثم ركب منها وسار حتى خرج من باب زويلة وطلع إلى القلعة بعد أن خرج المقام الجمالي يوسف ولده إلى ملاقاته بالخانقاه وعاد معه. وكان لقدومه يوم مشهود وسر الناس بسلامته وعاد السلطان إلى مصر بعد أن أتلف في هذه السفره نحو الخمسمائة ألف دينار من النقد وتلف له من السلاح والمتاع والخيل والجمال والبغال مثل ذلك وأنفق الأمراء بمصر والشام والعساكر المصرية والشامية مثل ذلك وتلف لأهل آمد وما حولها من الغلال والزراعات والمواشي شيء كثير إلى الغاية وقتل أيضًا خلائق ومع هذا كله كانت سفرة كثيرة الضرر قليلة النفع. ولم ينل أحد في هذه السفرة غرضًا من الأغراض ولا سكنت فتنة ولا قامت حرمة ولا ارتدع عدو. ولهج غالب الناس بأن السلطان سعده لا يعمل إلا وهو بقلعته وحيثما تحرك بنفسه بطل سعده وعدوا حركته مع التركمان في نيابته بطرابلس ثم واقعته مع الأمير جقمق نائب الشام لما أمسكه جقمق وحبسه ثم سفرته هذه إلى آمد. قلت: الحركات والسكون بيد الله ولما طلع السلطان إلى القلعة خلع على الأمراء وأخذ في إصلاح أمره وخلع على التاج بإعادته إلى ولاية القاهرة بعد عزل دولات خجا الظاهري. ثم خلع السلطان على الأمير آقبغا الجمالي المعزول عن الأستادارية قبل تاريخه باستقرارا في ولاية الوجه القبلي عوضًا عن داؤد التركماني وكان السلطان أنعم على آقبف المذكور بإمرة عشرة بعد موت الأمير تنبك من سيدي بك المعروف بالبهلوان بآمد. ثم في يوم الثلاثاء ثاني عشر شهر ربيع الأول من سنة سبع وثلانين المذكورة رسم السلطان بإخراج الأمير الكبير سودون من عبد الرحمن إلى القدس بطالًا فاستعفى من السفر وسأل أن يقيم بداره بطالًا فأجيب إلى ذلك ولزم داره إلى ما يأتي ذكره. وأنعم السلطان بأقطاعه على الديوان المفرد ولم يقرر أحدًا غيره في أتابكية العساكر بالديار المصرية وهذا شيء لم نعهد بمثله. وضرب رنك السلطان على البيمارستان المنصوري بالقاهرة. وكانت العادة جرت من مدة سنين أن كل من يلي الإمرة الكبرى يكون هو الناظر على البيمارستان المذكور فلما نفدت هذه الوظيفة تكلم السلطان على نظرها وضرب اسمه على بابها. ثم في يوم السبت أول شهر ربيع الآخر خلع السلطان على دولات خجا المعزول عن ولاية القاهرة باستقراره في ولاية المنوفية والقليوبية. ثم في يوم الاثنين ثالث شهر ربيع الآخر المذكور ركب السلطان من قلعة الجبل ونزل إلى الصيد وعاد في خامسه. ثم في يوم الاثنين عاشره خلع السلطان على الأمير إينال الششماني الناصري ثاني رأس نوبة باستقراره في نيابة صفد بعد موت الأمير مقبل الحسامي الدوادار ومقبل أيضًا هو أحد من اتهم بالوثوب على السلطان في آمد. ثم في حادي عشره خلع السلطان على آقبغا الجمالي المقدم ذكره باستقراره كاشف الوجه البحري عوضًا عن حسن بك ابن سالم الدوكري وأضيف إليه كشف الجسور أيضًا. ثم في ثالث عشره ركب السلطاني ونزل إلى البيمارستان المنصوري للنظر في أحواله فنزل به وأقام ساعة ثم ركب وعاد إلى القلعة. ثم في يوم الأحد ثامن عشرين جمادى الأولى خلع السلطان على حسين الكردي باستقراره كاشف الوجه القبلي بعد قتل آقبغا الجمالي في خامس عشرينه في حرب كان بينه وبين عرب البحيرة وقتل معه جماعة من مماليكه ومن العربان. ثم خلع السلطان على الوزير الأستادار كريم الدين ابن كاتب المناخ كاملية بفرو وسمور بمقلب سمور لتوجهه إلى البحيرة وصحبته حسين الكردي المقدم ذكره لعمل مصالحها واسترجاع ما نهبه أهل البحيرة من متاع آقبغا الجمالي بعد قتله وكتب إليهم السلطان بالعفو عنهم وأن آقبغا تعدى عليهم في تحريق بيوتهم وسبي أولادهم ثم في أول جمادى الآخرة أمر السلطان بعد من بالإسكندرية من القزازين وهم الحياك فأحصي في يوم الثلاثاء أول جمادى الآخرة المذكورون فبلغت عدتهم ثمانمائة نول بعد ما بلغت عدتهم في أيام نيابة ابن محمود الأستادار في سنة بضع وتسعين وسبعمائة أربعة عشر ألف نول ونيفًا فانظر إلى هذا التفاوت في هذه السنين القليلة وذلك لظلم ولاة الأمور وسوء سيرتهم وعدم معرفتهم لكونهم يطمعون في النزر اليسير بالظلم فيفوتهم أموال كثيرة مع العدل والفرق بين العامر والخراب ظاهر. ثم في يوم الاثنين ثاني عشر شهر رجب أدير محمل الحاج على العادة في كل سنة. ثم في سابع عشرين شهر رجب المذكور قدم الأمير بربغا التنمي الحاجب الثالث بدمشق إلى القاهرة بسيف الأمير جارقطلو نائب دمشق وقد مات بعد مرضه بخمسة وأربعين يومًا في يوم تاسع عشره فعين السلطان عوضه لنيابة دمشق الأمير قصروه من تمراز نائب حلب وكتب له بذلك. ثم في يوم تاسع عشرينه عين السلطان الأمير خجا سودون السيفي بلاط الأعرج أحد أمراء الطبلخاناه ورأس نوبة أن يتوجه إلى قصروه بالتقليد والتشريف. وفي اليوم خلع السلطان على الأمير قرقماس الشعباني الناصري المعروف أهرام ضاغ حاجب الحجاب باستقراره في نيابة حلب عوضًا عن قصروه وأن يكون مسفره الأمير شاد بك الجكمي أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة. وخلع السلطان على الأمير يشبك السودوني ثم الظاهري ططر المعروف بالمشد باستقراره حاجب الحجاب عوضًا عن قرقماس المذكور وأنعم بإقطاع قرقماس على الأمير آقبغا التمرازي أمير مجلس وخلع عليه باستقراره أمير سلاح وبإقطاع آقبغا على الأمير يشبك المذكور. وخلع السلطان على الأمير إينال الجكمي أمير سلاح باستقراره أتابك العساكر وكانت شاغرة من يوم لزم سودون من عبد الرحمن بيته واستقر عوضه في إمرة سلاح آقبغا التمرازي المقدم ذكره. وخلع السلطان على الأمير جقمق العلاني الأمير آخور باستقرار أمير مجلس عوضًا عن آقبغا التمرازي المقدم ذكره. وخلع على الأمير حسين بن أحمد المدعو تغري برمش باستقراره أمير آخور عوضًا عن جقمق العلائي. فخرج الجميع وعليهم الخلع والتشاريف وجلسوا على المسطبة التي يجلس عليها مقدم المماليك عند باب السر في انتظار الخيول التي أخرجها السلطان لهم بسروج الذهب والكنابيش ما خلا تغري برمش فإنه فارقهم من داخل القصر ونزل إلى باب السلسلة وتسلمه من وقته. فقعدوا الجميع على المسطبة صفًا واحدًا وجلس فوق الجميع إينال الجكمي ثم تحته قرقماس نائب حلب ثم آقبغا التمرازي الذي استقر أمير سلاح ثم الأمير جقمق الذي استقر أمير مجلس ثم الأمير يشبك المولى حاجب الحجاب إلى أن حضرت الخيول وركبوا ونزل كل واحد إلى داره. فلما نزل جقمق العلائي إلى داره عرفه أصحابه وحواشيه أن وظيفة الأمير آخورية كانت خيرًا له من وظيفة أمير مجلس وإن كان ولا بد فيولى أمير سلاح فيكون ما فاته من منفوع الأمير آخورية يتعوضه من قيام الحرمة بوظيفة أمير سلاح. وبلغ السلطان ذلك فرسم في الحال إلى آقبغا التمرازي أن يكون أمير مجلس على عادته وتكون الخلعة التي لبسها خلعة الرضى والاستمرار وأن يكون جقمق أمير سلاح ونزل الأمر إلى كل منهما بذلك فامتثلا المرسوم الشريف واستمر كل منهما على ما قرره السلطان ثانيًا. وفي اليوم المذكور رسم السلطان بإخراج الأمير سودون من عبد الرحمن إلى ثغر دمياط وسببه أن السلطان لما بلغه موت جارقطلو استشار بعض خواصه فيمن يوئيه نيابة الشام فذكروا له سودون من عبد الرحمن وأنه يقوم للسلطان بمبلغ كبير من ذهب في نظير ذلك. وكان في ظن السلطان أن سودون من عبد الرحمن قد استرخت أعضاؤه وتعطلت حركته من طول تمادي المرض به وقد أمن من جهته ما يختشيه فقال السلطان: سودون من عبد الرحمن تلف ولم يبق فيه بقية لذلك فقالوا: يا مولانا السلطان هو المتكلم في ذلك فلم يحملهم السلطان على الصدق وأرسل إليه في الحال يعرض عليه نيابة الشام فقبل وقال: مهما أراد السلطان مني فعلته له فلما عاد الجواب على السلطان بذلك علم أن غالب ما به تضاعف وأن فيه بقية لكل شيء فأمر في الحال بإخراجه إلى ثغر دمياط. ثم خلع السلطان على الأمير بربغا التنمي أحد حجاب دمشق وأعاده إلى دمشق. ثم في يوم الخميس سابع شعبان من سنة سبع وثلاثين المذكورة خلع السلطان على الأمير الكبير إينال الجكمي باستقراره في نظر البيمارستان المنصوري على العادة. وكان تولية إينال المذكور للإمرة الكبرى بغير إقطاع الأتابكية بل باستمراره على إقطاعه القديم غير أنه أنعم السلطان عليه بقرية حجة ومردة من أعمال نابلس وكانت من جملة إقطاع الأمير الكبير ثم خلع عليه بنظر البيمارستان المذكور فهذا الذي حصل له من جهة الأتابكية ولم ينله منها إلا مجرد الاسم فقط. وفي شهر رجب وشعبان قرر السلطان على جميع بلاد الشرقية والغربية والمنوفية والبحيرة وسائر الوجه القبلي خيولًا تؤخذ من أهل النواحي فكان يؤخذ من كل قرية خمسة آلاف درهم فلوسًا عن ثمن الفرس المقرر عليها ويؤخذ من بعض النواحي عشرة آلاف عن ثمن فرسين ويحتاج أهل الناحية إلى مغرم آخر لمن يتولى أخذ ذلك منهم فنزل بسبب ذلك على فلاحي القرى بلاء الله المنزل. وأحصى كتاب ديوان الجيش قرى أرض مصر العامرة كلها قبليها وبحريها فكانت ألفين ومائة وسبعيبن قرية وقد ذكر المسبحي في تاريخه أنها كانت في القرن الرابع عشرة آلاف قرية عامرة فانظر إلى تفاوت ما بين الزمنين مع أمن هذا الزمان وكثرة فتن ذلك الزمان غير أن السبب معروف والسكات أجمل. ثم في يوم الخميس رابع عشر شعبان برز قرقماس نائب حلب إلى محل كفالته وعليه جمل كبيرة من الديوان. ثم في تاسع عشر شعبان
يوسف وختن معه نحو الأربعين صبيًا بعدما كساهم وعمل لذلك مهمًا هائلًا للرجال بالحوش السلطاني وللنساء بالدور من القلعة. ثم في يوم السبت ثالث عشرينه فقد الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخ بعد أن كان استعفى غير مرة من إحدى الوظيفتين: إما الوز أو الأستادارية فلم يعفه السلطان فلما تسحب في هذا اليوم طلب السلطان أمين الدين إبراهيم بن الهيصم ناظر الدولة وخلع عليه باستقراره وزيرًا عوضًا عن الصاحب كريم الدين المذكور. ثم في يوم الأربعاء سابع عشرين شعبان المذكور ظهر الصاحب كريم الدين المقدم ذكره وطلع إلى القلعة فخلع عليه السلطان سلاريًا من قماشه. ثم طلع كريم الدين من الغد فخلع عليه السلطان ثانيًا خلعة جليلة باستمراره على وظيفة الأستادارية ونزل إلى داره في موكب جليل وقد سر به غالب أعيان الدولة فإن السلطان كان ألزم زين الدين عبد الباسط بوظيفة الأستادارية فقال له: يا مولانا السلطان ما يليق بي هذه الوظيفة فقال: يليها دوادارك جانبك فتبرم أيضًا من ذلك فخاشنه السلطان في الكلام وأهانه فأوعد بحمل مبلغ كبير من المال مساعدة للأستادار ثم حسن للسلطان في الباطن ولاية القاضي سعد الدين إبراهيم ناظر الخاص أستاذارًا وكلمه السلطان في ذلك فأبى سعد الدين إبراهيم أيضًا وأخذ يستعفي وبينما هم في ذلك ظهر كريم الدين فتنفس خناق عبد الباسط وغيره بظهور كريم الدين واستمراره على وظيفته. وقدم الخبر في هذا الشهر من مكة المشرفة بأن الوباء قد اشتد بها وبأوديتها حتى بلغ عدة من يموت بمكة في اليوم خمسين نفسًا ما بين رجل وامرأة. وفي شهر رمضان المذكور تحرك عزم السلطان على السفر إلى جهة آمد لقتال قرايلك وكتب إلى بلاد الشام بتعبئة الإقامات من الشعير وغيره على العادة. وكان سبب حركة السلطان لذلك لما ورد عليه الخبر في يوم ثامن عشره أن الأمير إينار العلائي نائب الرها كان بينه وبين أعوان قرايلك وقعة هائلة. وسببه أن بعض عساكر حلب أو عساكر الرها خرج يسير فرسه فلما كان بين بساتين الرها صادف طائفة من التركمان فقاتلهم وهزمهم وبلغ ذلك الأمير إينال فخرج مسرعًا من مدينة الرها نجدة لمن تقدم ذكره فخرجت عليه ثلاثة كمائن من القرايلكية فقاتلهم فكانت بينهم وقعة هائلة قتل فلما بلغ السلطان ذلك شق عليه وعزم على السفر ثم كتب السلطان إلى سائر البلاد الشامية بخروج نواب الممالك للحاق الأمير قرقماس نائب حلب بالرها ثم بطل ذلك وكتب بمنعهم من المسير حتى يصح عندهم نزول قرايلك على الرها بعساكره وجموعه فإذا صح لهم ذلك ساروا لقتاله. وفي يوم الثلاثاء عشرين شوال كتب السلطان باستقرار خليل بن شاهين الشيخي ناظر الإسكندرية وحاجبها في نيابة الإسكندرية مضافًا على النظر والحجوبية عوضًا عن الأمير جانبك السيفي يلبغا الناصري فرج المعروف بالثور.
|